بدأنا في المقال الأوّل من سلسلة ايام الخليقة السبعة الحديث عن التّفسيرات المختلفة لقصّة الخَلق. وذكرنا موضوعًا كان قد أثار جدلًا في السّابق حول النّماذج المُختلفة بخصوص مجموعتنا الشّمسيّة، حيث كان الهدف من ذكره هو عرض حالة بارزة يسهُل فيها على القارئ استنتاج إستنتاجًا ضعيفًا من النّص، لعدم تعامله مع نصّ الكتاب المقدّس تعاملًا سليمًا حينما يَذكر الكتاب موضوعًا علميًّا، ولَو باختصارٍ. يهدف هذا المقال إلى مساعدتنا بقراءة نصوصًا كهذه بطريقةٍ سليمةٍ، لكي ما نعود في الجزء الثّالث من هذه السّلسلة لقصّة الخلق ونقرأها من زاوية أخرى، بعد تذويت الأفكار المعروضة أدناه. نُجيب، إذًا، عن سؤالنا الّذي أنهينا فيه المقال السّابق.
كيف علينا أن نفهم لغة الكتاب المقدّس؟
أوّل أمر علينا أن نتذكّره بخصوص الكتاب المقدّس، هو أنّه نصٌّ أدبيٌّ، لا بل مجموعة من الكتب، منها تاريخيّة، أخرى شعريّة، أخرى بنمط رسائل، وكتب أخرى مختلفة مضمونًا وأسلوبًا. قبل قراءتنا لأيّ نص، علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يريد المؤلِّف أن نفهم النّص؟ فمثلًا، مؤلّف لكتاب ريّاضيّات لا يتوقّع منّا بأن نقرأ كتابه بنظرة شعريّة.
عند قراءة الكتاب المقدّس، علينا أن نتذكّر بأنّه ليس كتابًا علميًّا، وعلى الرّغم من تطرّقه في أحيانٍ قليلة لمواضيع تخصّ الطّبيعة، لا أحد يُعلِّم الفلك من سفر دانيال. ينبغي علينا أوّلًا، نحن القرّاء، بأنّ نفهم بدايةً المعنى الأوّلي والواضح للكتاب. فالحديث عن صَلب المسيح وقيامته هي أحداث حقيقيّة، تقصد المعنى الأوّلي والحرفي للكلمات: صلبًا حقيقيًّا وقيامةً حقيقيّةً من الأموات. لكن في مواضع أخرى كثيرة، من الواضح لنا أنّ الكتاب لا يقصد المعنى الأوّليّ والحَرفيّ للكلمة. فقد قال المسيح: ” أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ ” (يوحنّا 9:10)، لكنّنا نفهم أنّه لم يقصد بابًا مصنوعًا من خشبٍ أو مادّة أخرى. وفي تكوين 1:1 يقصد الكتاب بكلمة “الأرض”، كوكب الأرض (أو الكواكب بشكل عام)، لكن في الآية التي تليها (تكوين 2:1) يقصد بنفس الكلمة (الأرض) معنىً آخرًا، ألا وهو اليابسة (ما فوق المياه). فواضح لنا بأنّ كلمات معيّنة ممكن أن تحمل معانٍ مختلفة في مواضع مختلفة.
الاستعارة – جزء لا يتجزّأ من لغتنا اليوميّة والأدبيّة
استعمل الرّبّ يسوع في الآية السّابقة أسلوب الإستعارة، لكنّنا على معرفةٍ وفهمٍ تامَّين لهذا الأسلوب، فنحن نستعمل أسلوب الإستعارة بشكلٍ شبه يوميّ، فعندما يقول أحدهم:” لقد كانت السيّارة تُحَلِّقُ في الشّارع”، نفهم جميعنا بأنّ السيّارة كانت مسرعةً جدًّا، وليس بأنّها كانت تطير فعلًا.
يستعمل مُقدِّم نشرة الأخبار أيضًا هذا الأسلوب، فنسمعه يقول:”ستشرق الشّمس غدًا السّاعة 06:12″، بالرّغم من أنّه على علمٍ تامّ لثبات الشّمس. حتّى العلماء يستعملون الأسلوب ذاته، فيقول بعضهم: “نحن نعيش في عالمٍ أنيق”، “الجينات أنانيّة”، وقد قال العالِم إسحاق نيوتن Isaac Newton: “إذا استطعت النّظر بعيدًا، هذا لأنّك تجلس على كتفي عملاقين”.
بالرّغم من وضوح الإستعارة والاستعمال الرّمزيّ للكلمات في الجُمَل السّابقة، جميعنا يفهم المعنى المقصود والحقيقيّ الّذي تحمله الكلمات.
أمرٌ كهذا لا يفاجئ أحدًا منّا، فقد أشار سي. إس. لويس C. S. Lewis بأنّه عندما نريد وصف أمرًا يتعدّى حواسّنا، لا يمكننا إلّا بأن نستعمل أسلوب الاستعارة. مع ذلك، إستعمال الإستعارة لا يعني أنّنا لا نصف أمرًا حقيقيًّا. إستعمال الإستعارة بشكلٍ شبه يومي يساعدنا في الِارتقاء إلى مستوى أبعد من المستوى الأوّلي والحرفيّ للتّعابير التي تحوي على الإستعارة في النّصوص الأدبيّة المختلفة، وهذا يتضمّن الكتاب المقدّس، فهو، إلى جانب كونه كلمة الله، أيضًا نصٌّ أدبيٌّ. إستعمال الإستعارة في نطاق لغتنا المحكيّة واليوميّة، إذًا، هو بمثابة تدريب غير مباشر يساعدنا في فهم المعنى المقصود للتّعابير التي تتضمّنها في النّصوص الأدبيّة المختلفة.
تجربتنا اليوميّة مع العالم المادّي كمفتاحًا للجواب
لكن كيف نفهم تقريبًا بشكل دائم المعنى الصّحيح للكلمات التي نقرأها أو نسمعها، حتّى وإن احتوت على إستعارة؟ إنّنا نفهم المعنى المقصود من خلال تجاربنا اليوميّة مع العالم المادّي حولنا، ومن خلال الأدوات الّتي يقدّمها لنا العلم لتسهيل هذه المهمّة علينا. فعندما قال المسيح ” أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ” (يوحنّا 9:10)، من خبرتنا وتعاملنا مع الأبواب، نفهم أنّه لم يقصد بابًا مادّيًّا بالفعل! لكن استعمال الإستعارة لا يعني عدم قصد معنًى حقيقيًّا، فقد كان قصد الرّب يسوع بأنّه الطّريق التي نصل من خلالها إلى الله الآب، ألا وهو شيءٌ حقيقيٌّ بالفعل، وهذا بالرّغم من إستعماله للإستعارة، بالضّبط كما قال سي. إس لويس C. S. Lewis في عبارته السّابقة. خبرتنا العلميّة هي التي ساعدتنا في الحسم بين النموذجين المقترحين، ألا وهما: “الأرض الثّابتة” و”الشّمس الثّابتة”، لصالح الأخير، فتجربتنا مع العالم المادّي ومراقبتنا للطّبيعة ساعدتنا في فهم القصد الأدقّ للنّص.
لقد أدرك الفيلسوف المسيحي أغُسطينوس Augustine وأحد روّاد حركة الإصلاح جون كالڤين John Calvin بأنّ الكتاب المقدّس ليس بكتابٍ علميّ، وأحد وظائف العِلم هي مساعدتنا في إزالة الغموض فيما يتعلّق بنصوص قد تتطرّق إلى مجالٍ علميٍّ، فقد كتب الأوّل: “نحن لا نقرأ في الكتاب بأنّ الرّب قال بأنّه سوف يرسل الرّوح القدس الّذي بدوره سيشرح لنا مسار الشّمس والقمر، لأنّ الرّب أراد أن يجعل منّا مسيحيّين، وليس علماء ريّاضيّات”. أمّا كالفين، فقد قال في كتابه Commentary on the Book of Psalms، vol. V (Edinburgh: T. Constable، 1849)، v. 7، p. 184: “الرّوح القدس لم يقصد أن يعلّم علم الفلك، بل أن يكون مفهومًا لأقلّ الأشخاص معرفةً وعلمًا”.
لغة الكتاب المقدّس كلغة وصفيّة وخاصّة
يستعمل الكتاب المقدّس، بدلًا من استعمال لغةً علميّة، ما يسمّى باللغة الظّاهريّة-منطقيّة phenomenological language، لغة تصف ما نراه أمامنا. إنّها لغة تصف ما يشاهده أيّ شخص. يقول الكتاب المقدّس بأنّ الشّمس “تشرق” (الجامعة 5:1) بالضّبط تمامًا كما يقول هذا أيّ شخص آخر، أو حتّى عالِم فلك، فهذا ما يبدو للشّخص الواقف أمام هذه الظّاهرة، وهو يصفها كما هي وليس أكثر. لكن مع ذلك، إستعمال الكتاب المقدّس أو الباحث الفَلَكي لهذا النّوع من الوصف لا ينسب إلى أحدهم إلتزامه بتبنّي نموذجًا فلكيًّا من بين النّماذج المقترحة (النموذج الخاطئ، على سبيل المثال، الّذي ينصّ بأنّ الشّمس تدور حول كوكب الأرض)، فقد يقول شخص: “لقد استمتعت مساء أمس في مشاهدة غروب الشّمس أنا وحبيبتي” بالرّغم من إدراكه التّام بثبات الشّمس ودوران الأرض حول الشّمس وحول نفسها، لكنّه ببساطة يصف ما يراه. لا يمكننا إذًا أن ننسب للكتاب المقدّس نموذج “الأرض الثّابتة”، حتّى وإن تحدّث عن شروق الشّمس. فهو، كما سبق وذكرنا، يصف ما يراه أيّ شخصٍ أمامه وليس أكثر.
رأينا في هذا المقال بأيّ منظار ينبغي علينا أن نقرأ النّصوص في الكتاب المقدّس، وبأنّ الكتاب المقدّس، وعلى الرّغم من تطرّقه لمواضيع علميّة أحيانًا، إلّا أنّه ليس بكتابٍ علميّ، بل روحيّ، وبأنّ استعمال الاستعارة لا يقتصر فقط على لغتنا اليوميّة، إنّما على الأدب بشكلٍ عامّ، وذلك يتضمّن الكتاب المقدّس في بعض المواضِع أيضًا. تجربتنا مع الإستعارة، فهمنا للغة الكتاب المقدّس التي تصف الظّواهر الطّبيعيّة كما يراها المرء وإدرَاكنا أنّه علينا اللجوء إلى العِلم لمساعدتنا في فهم المعنى الأدقّ للنّصوص التي تتطرّق لوَصف الطّبيعة يساعدوننا في فهم النّص الكتابيّ بشكلٍ أدقّ.
هلمّ إذًا، نطبِّق ما تعلّمناه على قصّة الخليقة وأن ننظر إليها نظرةً مختلفةً، ثاقبةً نوعًا ما، في المقال الثّالث!
بقلم: بشارة سَكَس
المصدر: Seven Days That Divide the World: The Beginning According to Genesis and Science | John C. Lennox
مصادر الصور: الخليقة، سي اس لويس