أنهيت مقالي السابق في سلسلة “الإلحاد تحت المجهر – أين الأدلة” بالقول إن بعض الملحدين يحاولون تقديم الأدلة لصدق الإلحاد. من خلال سماعي لتلك الأدلة، قمت بتقسيمها إلى قسمين. القسم الأول هو أدلة غير مباشرة على عدم وجود الله، وبها يحاول الملحد زعزعة الايمان، من خلال تغيير الموضوع إلى موضوع آخر كليًّا وهو نقد العقيدة التي تؤمن بها. هذه مناورة معروفة ولكنها ضعيفة جدًّا، ﻷنها تتهرب من الموضوع الأساسي ألا وهو الدفاع عن الإلحاد نفسه، وتقديم أدلة واضحة، صريحة ومباشرة على عدم وجود الله. والقسم الثاني هو أدلة مباشرة على عدم وجود الله. سأبدأ في هذا المقال بعرض ومناقشة بعض الأدلة من القسم الأول – أي الأدلة غير المباشرة.
أنت ولدت مسيحيا!
قد يدّعي الملحد أن سبب اتّباع المؤمن للدين هو أنه ولد في بيت متدين، ومن هنا يرمزون لعدم صحة الدين! ولكن هذا طبعا فكر مغلوط، لأني تربيت أيضا على المحبة وعلى معلومة أن الأرض كروية! هل لأني ولدت في بيت يفكر بأن الأرض كروية، يُرفض فكري؟ وماذا عن أولئك الذين تربّوا في بيوت ملحدة؟ هل أستطيع رفض فكرهم لأنهم ولدوا في ذلك البيت؟ بهذه الادعاء هم يرتكبون المغالطة المنطقية المعروفة باسم “المغالطة الجينية” – Genetic Fallacy. والتي تنص على رفض فكرة معينة بناء على الوسيلة التي أقنعتك بهذا الفكر، ويتناسون صدق الفكر نفسه! أنا لا أنكر أهمية التربية والأفكار المكتسبة من المجتمع، لكن يجب علينا أن ندرس بموضوعية تامة الفكر ذاته ومصداقيته، وليس فقط كيفية وصولنا اليه.
لاحظوا معي كيف أن هذا الدليل لا يتعرض الى الله بتاتًا، بل الى الوسيلة التي تعرف بها الإنسان على الله. لذلك هذا دليل غير مباشر، ضعيف، وكما رأينا غير منطقي.
قصة الخلق
توقفت عن عد المرات التي أُدخلت قصة الخلق في نقاش الملحدين. وكأنها هي القضية المركزية التي تهدّد وجود الله! فهم يتخيلون أن هدف موسى الأساسي من كتابة سفر التكوين (وخاصة الأصحاحين الأول والثاني) هو أن يعلمنا مواضيع مهمة بالفلك والفيزياء وعلم الأحياء. ويتناسون أن يستخدموا أول ما تعلموه من مبادئ في فهم المقروء في المدرسة، كالنظر الى تاريخ الكاتب، ولمن يكتب، ولماذا. يتجاهلون أن الشعب في القديم زاغ وراء عبادة الشمس والقمر، البحر والحجر، القطط والبقر. ويتوقعون من موسى أن يترك الشعب في حضيضهم الروحي ويعطيهم الآن، في أول ما يكتب درسًا علميًا!
كلا، لم يكن هذا هدف موسى، ولم يكن هذا هدف أي كاتب آخر من كتّاب الكتاب المقدس. هدف موسى هدف روحي. أراد أن يقول للناس إن الله واحد، وهو الخالق القدير العظيم وجميع ما عبدوه كان من المخلوقات. وأراد أيضا أن يوضح مركز الإنسان المميّز عند الله، كل هذا عن طريق نص لن ينسوه.
من كل التفاسير الموجودة لتلك الأصحاحات ،ألا يخجل الملحد ببناء عقيدته على تفسير واحد وأيضا غير مباشر؟ فأين الدليل على عدم وجود الله؟
العجائب
يحاول البعض أن يدعم فكره بالإلحاد من خلال استهزائه بالعجائب والمعجزات المذكورة في الكتاب المقدس لأنها أمور ضد الطبيعة. حقا!؟ إن لم تكن ضد الطبيعة فلما دعيت عجيبة! يعتقد أولئك الذين يرفضون العجائب أن الناس الذين عاشوا قبل 2000 عام كانوا جاهلين، أغبياء، لا بل سخفاء. ولا ينتبهون لعدد المرات التي دُهشت فيها الجموع عندما شفى يسوع سكّان الربوع. فالناس فهموا جيّدًا أن إقامة الموتى، وشفاء المولود أعمى الذي تربى بينهم، أمور عجيبة، لذا شهدوا بكلامهم عمّا رأوه بأم أعينهم
الرد على هذه النقطة بسيط طبعًا. فإن خالق المادة، الطاقة والكون بأكمله، يستطيع أن يخلق ويغيّر ويعمل ما يشاء متى ما شاء! فهو غير مقيّد بالقوانين العلمية التي سنها هو بنفسه. كم هو سخيف أن تدعم عدم وجود الله من خلال منعه أن يتصرف بقدرته!
تعدد الأديان
يظنون أن تعدد الأديان نقطة ضعف عند المؤمن. فكيف يسمح الله الواحد لكل هذه الأديان بالتواجد تحت اسم “الله” وهم بنفس الوقت يختلفون على أمور أساسية! فكروا معي، لو منع الله انتشار البوذية مثلا، هل سيكون هو “أكثر صلاحًا”؟ هل اذا اقترب أحدهم من فكر البوذية، فقام الله وضربه بداء خبيث أو صعقه ببرق، هل عندها يصبح الله أكثر صلاحًا؟ أو لربما يخترق الى أعماق عقله ويمحو فكرة البوذية كما تمحو الممحاة أثر قلم الرصاص. هل عندها يكون أكثر صلاحًا؟ فماذا يطلب الملحد من الله هنا؟ اترك لكم مجال للتفكير والتعليق وسأسترسل بفكرة مشابهة بالمقال القادم.
جميع هذه المواضيع شيّقة ومهمة للنقاش. أنا قد اكتفيت بتقديم أول الخيط لكل نقطة. وآمل أنكم لاحظتم معي أن هذه ليست أدلة على عدم وجود الله نفسه! كل هدفها هو محاولة التشكيك بالإيمان ولكن هذا لا يبرر موقف الملحد! فأنا أطالب بأدلة مباشرة على عدم وجود الله شخصيًّا! وليس فقط أن تشكّك في عقيدتي. في المقال القادم سأناقش بعض الأدلة الأكثر جدية، ليس لأنها صعبة، بل لأنها تحاول أن تكون مباشرة!