اليكم قصة حقيقية تحكي عن عجوز بإسم ميبل (بالانجليزية Mabel) كما وردت بكتاب “الحياة التي كنت تتمناها دائما” من صفحة 24 الى 28 للكاتب جون أورتبيرج والذي اقتبسها من توم شميت (Tom Schmidt) الذي تعرّف على ميبل بنفسه 1
الزيارات لملجأ العجزة
ملجأ العجزة الذي تديره الدولة ليس بمكانٍ ممتع على الاطلاق. إنه مكان واسع، ينقصه العمّال، مليء بأناس يعانون من الشيخوخة، العجز، الوحدة وينتظرون ساعة موتهم. في أفضل أيّامه يبدو مظلمًا من الداخل، ورائحته نتنة مليئة بالسقم والفضلات القديمة. كنت أتردد لزيارة المكان مرة او مرتين بالاسبوع لمدة أربع سنوات، لكنني لم أرغب يوما في الذهاب إليه، وعندما كنت اغادر المكان كانت تعمنّي الراحة دائما. إنه ليس من الأماكن التي يعتاد الشخص على زيارتها.
في هذا اليوم بشكل خاص (عيد الأم)، كنت أسير في رواق لم أسبق أن زرته من قبل، أبحث عبثا عن أي شخص يبدو حيًا بما فيه الكفاية ليتلقى زهرة مني ويسمع بعض الكلمات المشجّعة. بدى لي هذا الرواق على أنه يحوي أصعب الحالات: أناس مقيّدين على كراسي عجلات أو عربات ويبدون عاجزين كليًا.
اللقاء
عند اقترابي من نهاية الرواق، رأيت امرأة هرمة مربوطة في كرسي عجلات. وجهها كان مرعبًا. تحديقتها الفارغة وبؤبؤها الأبيض أشاروا لي بأنها ضريرة. جهاز المساعدة السّمعي الموضوع على إحدى أذنيها أشار بانّها تقريبا صمّاء. نصف وجهها كان متآكلًا من السرطان بحيث أن الورم يغطي جزءًا كبيرًا من خدّها، وقد دفع بأنفها الى الاتجاه الاخر، أدّى الى سقوط احدى عينيها، وشوّه فكّها حتّى أصبحت زاوية الفم في قاع الوجه، الأمر الذي أدى بأن يسيل لعابها طوال الوقت. أُخبرت لاحقا انه عندما تصل ممرضة جديدة لتعمل هناك، كان المشرفون يرسلونها لإطعام هذه المرأة، حيث أنها إذا استطاعت تحمّل منظرها، فقد تستطيع تحمّل أي شيء في الملجأ. لقد علمت أيضًا، أن هذا المرأة في التاسعة والثمانين من عمرها، وقد أمضت خمسة وعشرون سنة هنا، طريحة الفراش، عمياء، تقريبًا صمّاء ووحيدة. هذه كانت “ميبل”.
لا ادري لماذا تكلّمت إليها، بدت أقل عرضة للرد من معظم الأشخاص الذين رأيتهم في هذا الممر. لكنني وضعت زهرة في يدها وقلت “هذه الزهرة لك، عيد أم سعيد”. أمسكت ميبل بالزهرة ورفعتها الى وجهها وحاولت شمّها، وتكلّمت. لدهشتي، كلماتها كانت نابعة من عقل سليم بالرغم من كم الإعاقات التي تعاني منها. قالت: “شكرا لك. إنها جميلة. لكن هل يمكنني إهداؤها لشخص آخر؟ لا استطيع رؤيتها، كما تعلم، فإنني ضريرة”
قلت: “بالطبع” ودفعتها في كرسيها إلى الأمام في الرواق الى حيث ظننت أنني قد ألتقي ببعض المرضى الواعين. وجدت احداهم وأوقفت الكرسي، مدّت ميبل وبيدها الزهرة وقالت: ” تفضّلي، هذه من يسوع.”
ميبل
تلك اللحظة التي اتضح لي فيها أنّ هذه المرأة ليست بشخص اعتيادي. بعد ذلك، دفعت بكرسي عجالاتها عائدا الى غرفتها وتعرّفت عليها أكثر. لقد عاشت سنوات طفولتها وبلوغها في مزرعة صغيرة التي اعتنت بها مع امّها حتى وفاتها. بعد ذلك قامت بإدارة المزرعة لوحدها حتى سنة 1950 إلى أن ادّى فقدان نظرها ومرضها بإرسالها إلى الملجأ. على مدار خمسة وعشرون سنة، كانت صحّتها تتدهور. جسمها اصبح اضعف وكانت تعاني من ألم مزمن في الرأس، الظهر والمعدة وبعد ذلك عانت من السرطان. كان رفقاء غرفتها الثلاثة جميعًا مثل الخضروات البشرية الذين كانوا يصرخون أحيانًا ولكنهم لم يتحدثوا أبدًا. غالبا ما كانوا يلوثون غطاء فراشهم، وبسبب نقص العمّال في الملجأ خصوصا ايّام الأحد، الأيام التي اعتدت أن أزورها بها، كانت الرائحة الكريهة تغمر المكان.
اصبحت انا وميبل اصدقاء خلال بضعة أسابيع وكنت أذهب لرؤيتها مرة او مرتين في الاسبوع لمدة ثلاث سنوات. في كل مرة تستقبلني بها، كانت كلماتها الأولى تهدف لتُقدّم لي السكاكر الموضوعة في صندوق مناديل بالقرب من سريرها. أحيانا كنت اقرأ لها من الكتاب المقدّس، وفي كثير من الأحيان عندما كنت اتوقّف عن القراءة، كانت تكمل المقطع من ذاكرتها بالتدقيق. في احيان اخرى، كنت احضر معي كتاب ترانيم وارنم معها، وكانت تعرف كل كلمات الترانيم القديمة. لم تكن هذه الترانيم والمقاطع الكتابية مجرّد تمارين للذاكرة بالنسبة لميبل. في أحيان كثيرة كانت تتوقف في نصف الترنيمة، وتعطي تعليقًا عن بعض الكلمات التي تعني لها شيئا بشكل خاص نظرا لحالتها. لم اسمعها قط تتكلّم عن الوحدة او الالم الّا عندما كانت بعض عبارات الترانيم تشدد على ذلك.
لم تمضي الكثير من الاسابيع حتى تحوَّل شعوري كمن يرغب بالمساعدة الى الشعور بالدهشة، وأصبحت أذهب إليها وبحوزتي ورقة وقلم لأدوّن ما كانت تقول.
بماذا تفكر؟
في احدى الاسابيع الصاخبة بفترة الامتحانات، كنت اشعر بالاحباط لان تفكيري كان مشتت بعشرة اتجاهات مختلفة بسبب كل الامور التي كنت بحاجة أن افكّر فيها. ثم خطر ببالي السؤال: بماذا تفكّر “ميبل” الآن؟ ساعة تلو الاخرى، يوم بعد يوم، أسبوع تلو الآخر، فهي لا تستطيع حتى معرفة ما إذا كان ليل أو نهار.
ذهبت إليها وسألتها: ” ميبل بماذا تفكّرين وانت مستلقية هنا؟”
فقالت: “انني افكّر بيسوعي”
جلست هناك، وفكّرت للحظة بصعوبة تفكيري بيسوع حتى لمدة خمس دقائق، ثم سألتها: “بماذا تفكّرين عن يسوع؟”، فأجابت ببطء متعمّد بينما كنت ادوّن:
“أفكّر بفضله علي. أتعرف؟ لقد كان صالحًا معي خلال حياتي.. إنني من النوع المكتفي.. الكثير من الناس لن تهتم كثيرا برأيي. الكثير من الناس يظنونني قديمة الطراز. لكنني لا أهتم لذلك. انني افضّل يسوع عليهم. إنه يعني كل العالم لي.
عندها، بدأت ميبل بغناء ترنيمة قديمة
يسوع هو كل عالمي،
حياتي، سعادتي، كلّي.
هو قّوتي في كل يوم، بدونه أسقط.
عندما احزن، إليه اذهب،
ليس هناك احد يفرحني مثله
عندما اكون حزينا يفرحني. هو صديقي.
هذا ليس بخيال
هذا ليس بخيال. بقدر ما يبدو مدهشا، هنالك شخص عاش بالفعل هكذا. أنا متيفنٌ من ذلك، فقد عرفتها. كيف كان باستطاعتها أن تعيش هكذا؟ الثواني مضت والدقائق زحفت، وكذلك الايّام والأسابيع والأشهر والسنين دون أن يرافقها شخص ودون أي تفسير لماذا حدث كلّ هذا. لقد جلست هناك وغنّت الترانيم. كيف كان باستطاعها ذلك؟
هنا كانت حياة كاملة، متمحورة حول اتّباع يسوع بأفضل ما يمكن نظرا لوضعها: تحمّل الألم بصبر، عزلة، مرض، صلاة، التأمّل بالكتاب المقدس، العبادة، الشركة عندما كانت متاحة، العطاء عندما يكون بإمكانها ذلك لزهرة أو لقطعة سكاكر.
تخيّل وجودك بحالتها وانت تقول: “أفكّر بفضل يسوع علي. أتعرف؟ لقد كان صالحا معي خلال حياتي.. إنني من النوع المكتفي..” هذا هو التجسيد الحقيقي للمزمور الثالث والعشرين: “الرب راعي فلا يعوزني شيء”
بالنسبة لأي شخص قابل ميبل، أصبح سرير المستشفى علّيقة مشتعلة. مكان حيث كان حضور الله يملأ هذا العالم المادي المليء بالألم. عندما رأى آخرون الحياة في سرير المستشفى، أرادوا خلع أحذيتهم اذ كانوا يقفون على أرض مقدسة. هل تظن أن حياة كهذه ممكنة لإنسان عاديّ؟
نفكر بالمستقبل بنشر مقال اخر عن قصة ميبل – المرأة المؤمنة الجبارة به نحاول تحليل شخصيتها وكيف استطاعت ان تكون بهذه القوة وتعيش هذه الحياة المثمرة.
ترجمة سري فرّاج
تُرجم عن المصدر
مصدر الصورة ، رابط رخصة الاستعمال.
المراجع
- توم هو احد معارف الفيلسوف وليم لين كريج، ووليم اقتبس القصة بنفسه في احد محاضراته عن مشكلة الشر