لطالما تهجَّم الملحدون على المؤمنين بالعديد من الأسئلة والاستفسارات ونقدوا كل صغيرة وكبيرة في الإيمان المسيحي وفي الكتاب المقدس. بحسب رأيي، يحق لهم هذا، إن التزموا بآداب الحديث والنقاش. ليس هذا فحسب، بل إن هذه الأسئلة هي لصالحنا نحن المؤمنين، فعن طريقها نُحث أكثر على دراسة الإيمان ومعرفة شخص ربنا ومشيئته. في هذه السلسلة بعنوان “الإلحاد تحت المجهر” سأقوم أنا “بالهجوم” على الفكر الإلحادي ومحاولة نقده، نقد أساساته وتأثيراته على المجتمع. لن أتهجم على الملحدين كأشخاص، حاشا! فكما ذكرت في إحدى مقالاتي السابقة، لدي العديد من الأصدقاء الذين يؤمنون بعدم وجود الله، ورغم ذلك فأنا أحبهم وأحترمهم، يدخلون بيتي كأخوة لي، وهم يبادلوني نفس الشعور. في هذه السلسة سأنقد الفكر الإلحادي كفكر، فأظن أن من حقي ذلك ما دمت ألتزم أنا أيضا بآداب النقاش واحترام الغير.
هنالك عدة تعاريف للفكر الإلحادي وعدة تيارات (أو طوائف إن جاز التعبير) وأشخاص وجماعات مختلفة تدعي الإلحاد. ولكني سأسلط الضوء بهذه السلسلة فقط على نقد الفكر الذي يوافق التعريف التالي: “الإيمان بعدم وجود الله”. وهذا ما يكتبه بول إدواردس (كاتب موسوعة في الفلسفة): “الملحد هو الشخص الذي يؤكد أن الله غير موجود”. من الجدير بالذكر بأن البعض يحاول التلاعب بهذا التعريف وتغييره إلى: “عدم وجود إيمان بالله” بحيث ينكر وجود الإيمان بدلا من وجود الله نفسه. ذلك التلاعب يضعف المذهب الإلحادي، لأن في هذه الحالة، حتى قطة الجيران ملحدة! لأن لا إيمان لها، وكذلك ابني الذي يبلغ من العمر سنة واحدة، ملحد أيضا! أما التعريف الأول (الإيمان بعدم وجود الله) فهو واضح وصريح ولا يضم القطط والأطفال الرضع. فالموضوع الأساسي هو: “وجود الله”. فالذي يدعي وجود الله، عليه أن يأتي بالأدلة، وكذلك الملحد، الذي ينكر وجود الله، عليه أيضا أن يدعم إدعاءه بالأدلة على عدم وجود الله. أما الطرف الثالث هو الذي لم يأخذ موقفا بعد (من طائفة اللاأدريين)، عليه دراسة جميع الأدلة بصورة موضوعية إلى أن يصل إلى قرار.
لن أنقد في هذه السلسلة كل التيارات التي توافق على التعريف الأول بل جزءًا (كبيرًا) منها، وخاصة تلك التي تؤمن أن لا وجود إلا للأشياء المادية والطاقة. في اللغة الإنجليزية تسمّى بالماتيرياليزم (Materialism) وترجمتها الحرفية: “المادية” أو المذهب المادي أو النظرية المادية. إن الغالبية من الملحدين ينتمون لهذا المذهب. لربما سينطبق نقدي أيضا على مذاهب أخرى ولكن سأركز بشكل خاص على نقد المذهب المادي.
يظن البعض أن إيمانه بهذا المذهب المادي أو بإلحاده يتحرر من عبودية الإيمان، وأن الإلحاد هو تنوير بل ثورة على الدين ورؤسائه. ليس هذا فحسب، بل يعتقد بعضهم أن الإيمان هو للأشخاص الضعفاء البسطاء الذين يخافون من الظلمة، فيروون لهم أساطير ما قبل النوم ليطمئنوهم. ولكن الكثير من الملحدين لا يفكرون بما يأتي به مذهب الإلحاد من بليّة عليهم، وأي فخاخ يخبئها لهم. فهم يستمتعون “بحريتهم” ولا يكملون التفكير (إمّا تناسيًا أو تجاهلاً) بنتائج وبتأثير هذا المذهب على حياتهم وعلى المعنى، القيم والهدف وراء انتهاج ذلك المذهب. سأتناول بعض جوانب هذه المواضيع في المقالات القادمة.
في هذه المقدمة أردت تعريف أي فكر إلحادي سأنقد والكشف عن نواياي (الحسنة) ودوافعي من كتابة هذه السلسة التي لن تحاول الدفاع عن الإيمان المسيحي، وإنما ستشكك في مصداقية المذهب الإلحادي وستضعه تحت المجهر. بل وأتوقع من الملحدين الدفاع بدورهم عن إيمانهم. وفي النهاية، هذه المقدمة ستكون بمثابة مرجع أساسي لمن سيقرأ المقالات القادمة حتى يتمكن من فهم سياق التعريف والمذهب الذي سيتم نقده. صلاتي أن تستخدم هذه السلسلة لتنوير العقول.