بالأمس تم الإعلان عن العلماء الذين حازوا على جائزة نوبل في الفيزياء وأحدهم هو العالم روجر بنروز. أكُِّن لهذا العالِم الاحترام والتقدير على جهوده، دراساته وما قدّمه لنا من عِلمٍ وحكمة. كنت قد تعرفت على كتاباته من خلال القراءة عن بعض المواضيع في عِلم الفلك كبداية الكون والضبط الدقيق إلّا أنني في السنة الماضية شاهدت حوارا شيقا جدا دار بينه وبين الفيلسوف المسيحي وليم لين كريج، حيث تكلما عن الكون، الفلسفة، ميتافيزيقيا، الوعي وعن بعض الحجج على وجود الله أيضا.
نظرة روجر بنروز الفلسفية
د. بنروز عالم ملحد ولكن ما يُميّز إلحاده أنه ليس إلحادا ماديّا بحتًا، فالكثير من العلماء الملحدين يعتقدون أن الفلسفة قد ماتت وأن العِلم هو الطريق الوحيد لمعرفة الحق، لكن لدى د. بنروز نظرة ميتافيزيقية فلسفية أوسع وهي مكوّنة من ثلاثة أقسام، أو إن جاز التعبيرثلاثة عوالِم وهي:
- العالَم الفيزيائي المادي
- عالَم الأشياء المجردة (كالأرقام)
- عالَم الوعي (النفس العاقلة) – Consciousness \ Mental World
والأمر ازداد تشويقا في الحوار بينهما حين قدّم د. بنروز ثلاثة ألغاز (استخدم كلمة mystery) التي تتعلق بالعلاقة بين هذه العوالِم الثلاثة.
اللغز الأول – اعتماد العالم المادي على عالَم الأرقام المجرَّدَة
هنالك دقة رهيبة تصف العالَم الفيزيائي من خلال أرقام ومعادلات رياضيّة، وكلّما بحثنا أكثر كلّما اكتشفنا أن هذه المعادلات تقود العالم الفيزيائي بدقة لامتناهية. إنها ليست مجرد معادلات بل أيضا مبادئ وهي تحكم وتضبط العالم الفيزيائي بإحكام وإتقان. كما قال العالم يوجين فجنور، يبدو أن العالَم الفيزيائي مكتوب بلغة الرياضيات! أعطى د. بنروز امثلة من النظرية النسبية العامة لأينشتاين لشرح المعضلة، لكني لن أدخل بتفاصيلها الآن، بل أكتفي بالتركيز على أن اللغز الأول يكمن في علاقة العالَم الفيزيائي المادي بعالَم الأرقام والمعادلات المجردة.
اللغز الثاني – كيف ينشأ الوعي في عالَم مادي؟
متى يصبح الشيء المادي واعيا؟ ما هي الظروف الضرورية لإنشاء الوعي؟ لكي يوضّح د. بنروز الصورة رفع كأس الماء الذي أمامه وقال هذا الكأس مادي ولا يبدو لي انه لديه أي وعي، مشاعر أو افكار. ثم قال أنه بالرغم من ذلك، الوعي موجود عند أشياء أخرى موجودة في العالم المادية كالبشر وبعض الحيوانات. هنالك تركيبة مُعيّنة للمخ التي تتعلق بظهور الوعي وهنالك سر عميق في هذا الموضوع وهو لا يعتقد أن الأمر مجرد موضوع حسابي معقد فحسب.
اللغز الثالث – علاقة الوعي بالأشياء المجردة
كيف يمكن للإنسان أن يستخدم عقله الواعي لاستيعاب واستخدام أشياء من عالم الأرقام المجردة؟ هذه الأشياء المجردة استثنائية، مُتّسقة ذاتيا، عميقة للغاية وبعيدة جدا عن اختباراتنا الشخصية الواعية. للتوضيح، د. بنروز يعتقد أن عالَم الأرقام المجردة حقا موجود (أونطولوجيا)، أي أننا نكتشف وجوده كلما بحثنا أكثر ولا نخترع هذه الأشياء لمجرد أنها تساعدنا على البقاء. فما هي العلاقة بين عقلنا الواعي وهذه الأشياء المجرّدة وكيف يتم الربط بينهما؟ كيف يستكشف العقل الواعي الأرقام، إن كان كلٌّ في عالمه الخاص؟
اقتراح وليم لين كريج
توجّه المحاور لوليم لين كريج ليسأله عن رأيه في ما سمع من د. بنروز، وبعد أن عبّر د. كريج عن احترامه الشديد له سأل عن إن كنا نستطيع أن نفكر بطريقة لحل الألغاز وعن طريقة للوصل بين هذه العوالم الثلاث (المادي، المجرد والوعي) على الرغم من اختلافها عن بعضها وعدم وجود تأثير واضح من عالم على الآخر. هل هناك وحدة مشتركة لهم؟ هل هنالك أساس واحد لهم جميعا؟ هل يمكن للأساس أن يكون عالم الأرقام المجردة؟ د. كريج يدعي أن هذا مستحيل، لأن أي شيء مجرد ليست لديه القدرة على أن يؤثر أو يسبب حدوث أمر معين. الأشياء المجردة هي أشياء عقيمة وعاجزة عن التأثير. الرقم سبعة، على سبيل المثال، لا يسبب حدوث أي شيء على الإطلاق. ماذا عن العالم المادي؟ د. بنروز عبّر عن أن العالَم الفيزيائي محكوم من عالَم الأشياء المجردة. العالَم المجرد عالَم لا نهائي، لكن الفيزيائي المادي محدود، لذلك من المستحيل على المحدود أن يحوي اللانهائي. وأضف إلى ذلك أيضا اللغز الذي يكمن في عملية نشوء الوعي.
وتابع كريج: هل يمكن لعالَم الوعي أن يكون هو الأساس ومنبع كل شيء؟ لكل منا اختبار وتجربة بالتأثير الواعي على حدوث أشياء معينة. أنا استطيع أن أسبب حدوث صوت أو أقرر أن احرك الاشياء التي امامي بشكل واع. ليس ذلك فقط، بل أن بعض الفلاسفة اقترحت أن العالم المجرد ليس عالما منفصلا، بل هو جزء من عالم الوعي، أي أن الأرقام هي أفكار داخل عقل واع. طبعا، لا يوجد عقل إنسان يستطيع ضم كل عالم الأرقام المجردة. وهنا قال د. كريج: “أريد أن أدعو د. بنروز على أن يعلّق على فكرة لماذا لا يستطيع عالم الوعي أن يشمل عقل واع لا نهائي الذي خلق العالم المادي وبنفس الوقت يحوي عالم الأرقام المجردة” هذا قد يكون حلا للمشكلة التي أمامنا.
اعتراض د. روجر بنروز
إعتراض د. بنروز الأساسي كان يدور حول ضبابية افتراض وجود هذا العقل اللانهائي، ما هي صفاته، كيف يساعد على حل الألغاز بشكل خاص وكيف نستطيع أن نفحص أو ندحض هذه الفرضية. د. بنروز لم يقل أن هذا الافتراض غير صحيح، بل أنه لا يعلم كيف يفيدنا. هذا النقاش لم ينتهِ هنا بطبيعة الحال، هذه مجرد المقدمة، وأنا ادعوك عزيزي القارئ أن تشاهد الحوار بأكمله في الرابط التالي:
كمسيحي، لا أستطيع أن أخفي أن إحدى المقاطع المفضّلة لدي كانت حين اعترض د. بنروز وقال أنه إذا كان هذا العقل اللانهائي لديه حرية إرادة أيضا، فعندها يبدو أنه مِثلُنا، يشبهنا كثيرا، أكثر مما ينبغي (too much)! وكانت إجابة د. كريج: “لربما لأننا نحن مِثلُه وكشبهه“.
بالنهاية، حوار مثل هذا، بنّاء، محترم، مبني على دراسات كثيرة وفكر عميق هو أحد أهم الطرق المُهداة لنا كبشر كي نستخدمها في مسيرتنا للبحث عن الحق.
مصدر صورة الغلاف من يوتيوب
مصدر صورة الثلاثة من تويتر