تطرقنا في الجزء الأول إلى الاعتراضات التي تواجه حروب العهد القديم، خاصة التي كانت بأمر من الله، وابتدأنا بمعالجتها من خلال دراسة طبيعة الله ووصاياه العامة لشعبه، ورأينا أن الله واهب الحياة ومالكها يبغض القتل ويوصي بمحبة الأعداء ومعاملتهم بالحسنى. من هنا يُطرح السؤال هل كان الأمر بقتل شعوب كنعان حالة خاصة مُبررة؟ سنحاول في هذا المقال اقتراح بعض الأجوبة المحتملة لهذا السؤال:
1. دينونة شعوب كنعان الاثيمة – الله القدوس الديان العادل
طبيعة البشر الخاطئة والشريرة تستلزم وجود سلوكيات وقوانين أخلاقية نقشها الله اولا في ضمائر البشر قبل نقشها على ألواح الحجر. ولا معنى لوجود قوانين أخلاقية دون وجود عقوبات ودينونة لمن يخرقها فيقول الله: “كطريقهم أصنع بهم وكأحكامهم احكم عليهم فيعلمون اني انا الرب” (حزقيال 27:7). لذلك، كون الله قدوس فهو يبغض الشر ولأنه عادل يدينه. كثيرا ما نتغنى بوجه الإله الحنان والرحيم ولكن وجه الإله الديان العادل لا يقل جمالا وروعة، فلا يمكن أن نعبد إلها يتهاون مع الشر والظلم ويرى قوانينه تداس ولا يحرك ساكنا. أدرك إبراهيم ذلك تماما لذلك قال: ” اديّان كل الأرض لا يصنع عدلا؟” (تكوين 25:18). فإن كنا لا نقبل العيش في دولة افتراضية لا قانون بها ولا عقوبات لمن يخالف قوانينها، كيف من الممكن أن نعبد إلها لا يعاقب ويدين من يكسر القوانين الأخلاقية التي وضعها؟
لكن هل فعلا كسرت شعوب كنعان قوانين الله الأخلاقية فاستحقت الدينونة؟ يقول الرب لشعبه بلسان موسى:” ليس لأجل برك وعدالة قلبك… بل لأجل إثم اولئك الشعوب يطردهم الرب الهك من امامك” (تثنية 5:9). لذلك فمن الواضح أن الأمر بقتل شعوب كنعان كان دينونة لهم بسبب اثمهم. فقد “عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب مما يكرهه” (تثنية 30:12)، مثلا:عبدوا الأوثان وبنوا لها معابدًا في كل مكان ونذرت نساؤهم أنفسهن للزنى في هذه المعابد (تثنية 1:12-2) و”احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنارلآلهتهم” (تثنية 30:12) بواسطة وضعهم على أيدي الآلهة الملتهبة. كما فعلوا الشر ذكورا بذكور وإناثا بإناث وايضا بالحيوانات والاطفال، هذا بالإضافة إلى شرور كثيرة أخرى (لاويين 18,17). لذلك كسرت شعوب كنعان أهم قوانين الله الاخلاقية بعبادتهم للمخلوق بدل الخالق وبتمركز حياتهم وعبادتهم لآلهتهم حول العنف والقتل والممارسات الجنسية الفاحشة، مما استوجب إدانتهم.
2. ردع بني اسرائيل من الضلال والسير بطرق شعوب كنعان الشريرة
حذر الله شعبه من ان يُصطادوا وراء شعوب كنعان فيعبدوا آلهتهم (تثنية 29:12-30). فدان الله شعوب كنعان لكي لا يعلّموهم أن يعملوا حسب جميع ارجاسهم التي عملوا لآلهتهم فيخطئوا إلى الرب إلههم (تثنية 16:20-17).
3. حماية الرب والتسبب باقل أذى للبشرية واقل قتل على المدى الطويل
كانت هذه الشعوب عنيفة جدا ومتعطشة للدماء وكالورم السرطاني الخبيث الذي وجب استئصاله كي لا يتفشى ويدمر ويقتل باقي الشعوب. مثلا، حارب المديانيون بني اسرائيل رغم انهم ارادوا فقط عبور أرضهم (عدد 21) وكان العماليق هو من لاحق بني إسرائيل وتحالف مع المديانيين والكنعانيين وابتدأ بالاعتداء عليهم حينما كانوا ضعفاء ومتعبين وقتل الكثير منهم حتى النساء والأطفال والمسنين (عدد 45:14, تثنية 17:25-18). لذلك فإن دينونة هذه الشعوب قد تتسبب باقل أذى واقل قتل على المدى الطويل وجزء من مسؤولية الله هو حماية خليقته. على الرغم من أننا لا نقدر أن نجزم في الأمر بسبب عدم معرفتنا للمستقبل وعدم قدرتنا على التنبؤ بنتائج أمور لم تحصل، الا ان قدرة الله على معرفة المستقبل ومعرفة نتائج كل الاحتمالات الممكنة وحتى أمور لم تحدث تخوّله لاتخاذ قرارات صائبة لأنه يملك رؤية شاملة نحن لا نمتلكها. كما وأنه من الممكن ان يكون هناك أسباب أخرى لم يعلنها لنا الله في كلمته لحكمته.
4. ردع شعوب أخرى من الاستمرار بشرهم وحثهم على التوبة
بحسب معظم النظريات الأخلاقية، كثيرا ما تؤدي العقوبات إلى ردع مجرم آخر من اقتراف الجريمة وهي جزء لا يتجزأ من محاولة أي حُكم بتخفيف نسبة الإجرام بالمجتمع. أبسط مثال هو كاميرات السرعة التي تردع السائق من زيادة سرعته خوفا من الغرامة المالية. كانت دينونة بعض الساكنين في ارض كنعان تمثل انذارا للآخرين لترك أفعالهم الشريرة وللتوبة فمثلا، أدّت دينونة الاموريين إلى توبة راحاب الزانية وانضمامها إلى شعب الله (يشوع 2). وككبر معاصي راحاب كانت عظمة رحمة الله ونعمته لها حين جاءته بقلب تائب، فهو لم يكتفِ بأن يغفر لها معاصيها ويقبلها إلى شعبه، بل أعطاها الامتياز أن تكون جزءا من نَسَب المسيح! “لانه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه” (مزمور 11:103).
5. استخدم الشيطان هذه الشعوب في محاولة لإفساد مُخطط الله لخلاص البشرية
استخدم الشيطان شعوب كنعان في محاولة لإفساد مخطط الله بخلاص البشرية فقد كان بنو إسرائيل الشعب الوحيد الذي عَبَد الله في تلك الفترة وكان مخطط الله أن يأتي مخلص العالم من سلالتهم، فقال الله: “للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور” ( خروج 16:1). لذلك كان من الضروري إدانتهم لأنهم سَخّروا أنفسهم آلات إثم بيد الشيطان ليفسدوا مشيئة الله الصالحة للبشرية.
من هنا نستنتج أن شعوب كنعان تمادوا في الشر والإثم و في محاولاتهم لتدمير خليقة الله ومقاصده لخلاص البشرية. لذلك أدانهم الله بواسطة بني إسرائيل لأنه قدوس وعادل وعيناه اطهر من ان تنظران فسادا دون إدانته. كانت هذه الدينونة ضرورية لردع بني إسرائيل من الفساد والسير في طرق هذه الشعوب ومنع إفساد خطة الله للخلاص. وعلى الرغم من انها اسفرت عن دينونة بعض الشعوب، إلا أنها قد تكون وسيلة الله لحماية الخليقة من أذاها والتسبب باقل قتل وضرر على المدى البعيد. لكن هل يحق لله أن يدين شعبا بسيف شعب آخر؟ هل كانت لدى شعوب كنعان فرصة للتوبة؟ وماذا عن الاطفال الابرياء؟ سنتناول في المقال التالي من السلسلة هذه الأسئلة.
بقلم: اسيل شومر
المصادر:
- د. ماهر صموئيل
- د. بيتر ج. وليمز
- القس عزت شاكر، رابط 2، رابط 3، رابط 4، رابط 5، رابط 6
- كتاب اله العهد القديم اله الدماء للقس عزت شاكر
- مصدر صورة العنوان، ويكيبيديا.