التعامل مع الشك – جورج عبده


التعامل مع الشك

الشك جزء طبيعي من تجربة الإنسان، ويُعتبر التعامل معه مهارة ضرورية لتحقيق نمو فكري وروحي صحي. في هذا المقال، أود تلخيص بعض النقاط من عظة قدمتها بعنوان “التعامل مع الشك”، المستوحاة من حديث السيد المسيح الراقي عن شك يوحنا المعمدان. سنرى كيف أن المسيح شجّعه، احترم عقله ومشاعره، ولم يدنه على شكّه.

فيديو لعظة التعامل مع الشك

لماذا نخاف من الشك؟

يجب أن نبدأ بطرح سؤالًا مهمًا: لماذا يخاف الكثير من الناس من الشك أو حتى من طرح الأسئلة؟ في المجتمعات الدينية، قد يُنظر إلى الشك على أنه خطر يهدد الإيمان، مما يجعل البعض يتجنب التفكير النقدي. وليس ذلك فحسب، بل يُنظر إلى المشكك بنظرة استعلائية من قِبل أفراد مجتمعه، وكأنهم أفضل منه لأنهم يعتقدون أن إيمانهم أقوى. البعض قد يتمادى في تعامله مع الشك، فيقدّم إجابات سطحية توحي بأن السؤال نفسه “غبي”، بدلاً من احترام المشكك ومواجهته بإجابات منطقية ومدروسة، بينما يرفض البعض الآخر الأسئلة تمامًا. لكن هذا الأسلوب في التعامل مع الشك غير صحي، وغير أخلاقي، ولا يتوافق مع فكر المسيح أو طريقته في التعامل مع المتشككين.

ما هو الشك؟

إن أردنا تقديم تعريف أولي للشك، فقد يتراوح بين عدم التأكد من صحة معتقد معيّن، والتأكد من عدم صحته. لكن هذا التعريف يركز فقط على الجانب الفكري للشك. الفيلسوف واللاهوتي جاري هبرماس1 يقدّم تصنيفًا أعمق لأنواع الشك، وهو:

  • الشك الفكري: يحدث عندما يواجه الشخص تساؤلات عقلية حول مصداقية الإيمان، ويبحث عن أدلة منطقية وبراهين عقلية لدعم أو دحض ما يؤمن به.
  • الشك العاطفي: ينشأ من مشاعر القلق أو الخوف أو الألم الشخصي، وعادة ما يندمج مع الشك الفكري خاصة بسبب تجارب صعبة.
  • الشك الإرادي: هو المرحلة النهائية وبه يكوّن الانسان شخصيّة تتبنى موقف مُشكك وأحينا تتطرف حتى برفض البحث عن الحقيقة، حتى بعد مواجهة الأدلة الواضحة.

أنواع المشككين

بالإضافة إلى أنواع الشك، هناك أيضًا أنواع مختلفة من المشككين. بعضهم مؤمنون مسيحيون لكن لديهم أسئلة، وبعضهم ينتمي إلى ديانات أخرى، وهناك أيضًا ملحدون. لكن هنا أريد التركيز على الأشخاص المتواجدين في دوائر حياتنا القريبة، الذين نقابلهم باستمرار ولديهم شكوك ويرغبون في مناقشتها معنا.

يوحنا المعمدان: مثال للإيمان العظيم

قبل أن نرى كيف تعامل السيد المسيح مع يوحنا المعمدان، لنتذكر من هو. كان يوحنا أحد أعظم الشخصيات في التاريخ الروحي، فقد كرس حياته بالكامل لنشر رسالة التوبة والإعداد لمجيء المسيح. كان صوته “صارخًا في البرية”، يدعو الناس إلى تغيير قلوبهم والاستعداد للملكوت. رغم إيمانه العميق، وشهادته للمسيح عندما قال: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”، و “أنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” و “يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلًا أن أحمل حذاءه”، إلا أنه في لحظة ضعف وسجن، تسلل إليه الشك وسأل: “أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” (لوقا 7: 18-28). كيف تعامل المسيح مع شك يوحنا؟ لنقرأ النص:

لوقا 7: 18 – 28

فدَعا يوحَنا اثنَينِ مِنْ تلاميذِهِ، وأرسَلَ إلَى يَسوعَ قائلًا: «أنتَ هو الآتي أم نَنتَظِرُ آخَرَ؟». فلَمّا جاءَ إليهِ الرَّجُلانِ قالا: «يوحَنا المَعمَدانُ قد أرسَلَنا إلَيكَ قائلًا: أنتَ هو الآتي أم نَنتَظِرُ آخَرَ؟». وفي تِلكَ السّاعَةِ شَفَى كثيرينَ مِنْ أمراضٍ وأدواءٍ وأرواحٍ شِرّيرَةٍ، ووهَبَ البَصَرَ لعُميانٍ كثيرينَ. فأجابَ يَسوعُ وقالَ لهُما: «اذهَبا وأخبِرا يوحَنا بما رأيتُما وسَمِعتُما : إنَّ العُميَ يُبصِرونَ، والعُرجَ يَمشونَ، والبُرصَ يُطَهَّرونَ، والصُّمَّ يَسمَعونَ، والموتَى يَقومونَ، والمَساكينَ يُبَشَّرونَ. وطوبَى لمَنْ لا يَعثُرُ فيَّ».

فلَمّا مَضَى رَسولا يوحَنا، ابتَدأ يقولُ للجُموعِ عن يوحَنا: «ماذا خرجتُمْ إلَى البَرّيَّةِ لتَنظُروا؟ أقَصَبَةً تُحَرِّكُها الرّيحُ؟ بل ماذا خرجتُمْ لتَنظُروا؟ أإنسانًا لابِسًا ثيابًا ناعِمَةً؟ هوذا الّذينَ في اللِّباسِ الفاخِرِ والتَّنَعُّمِ هُم في قُصورِ المُلوكِ. بل ماذا خرجتُمْ لتَنظُروا؟ أنَبيًّا؟ نَعَمْ، أقولُ لكُمْ: وأفضَلَ مِنْ نَبيٍّ! هذا هو الّذي كُتِبَ عنهُ: ها أنا أُرسِلُ أمامَ وجهِكَ مَلاكي الّذي يُهَيِّئُ طريقَكَ قُدّامَكَ! لأنّي أقولُ لكُمْ: إنَّهُ بَينَ المَوْلودينَ مِنَ النِّساءِ ليس نَبيٌّ أعظَمَ مِنْ يوحَنا المَعمَدانِ، ولكن الأصغَرَ في ملكوتِ اللهِ أعظَمُ مِنهُ.2

شك يوحنا المعمدان في السجن

كيف نتعامل مع الشك؟

إذا أردنا تلخيص طريقة التعامل مع الشك وفقًا للسيّد الممسيح بكلمة واحدة، فهي “المحبة”. لكننا نتحدث عن محبة حقيقية وليست مجرد نظرية، لذا سأقدم خمس نصائح عملية للتعامل مع الشك:

1. لا تدن المشكك، بل شجّعه

عندما أرسل يوحنا المعمدان تلاميذه إلى يسوع ليسألوه “أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟”، لم يكفّره، يوبخه يسوع أو يدينه، بل على العكس، قام بتشجيعه ومدحه، حتى أنه قال عنه: “ليس نَبيٌّ أعظَمَ مِنْ يوحَنا المَعمَدان”! تعامل المسيح بنفس الطريقة مع بطرس الرسول بعد أن أنكره، وكذلك مع توما عندما شكّ في قيامته. الهدف من هذا النهج هو توفير بيئة آمنة للمشكك، حيث يشعر بحرية في استخدام عقله والتفكير النقدي، وهو جزء طبيعي من كينونة الإنسان.

2. احترام عقل المشكك

لم يطلب يسوع من يوحنا المعمدان أن يؤمن به إيمانًا أعمى، بل قدّم له أدلة ملموسة عن شفاء المرضى وإقامة الموتى، مما يُظهر احترامه لعقل يوحنا وسعيه للبحث عن الحقيقة. هذه الأعمال والآيات تشهد لهوية المسيح (يوحنا 20: 31). إضافة إلى ذلك، أشار المسيح في إجابته إلى النبوات التي تحققت عنه في إشعياء 61: 1 وإشعياء 35: 5، مما يؤكد أنه يتمم ما كُتب عنه.

المسيحيّة بشكل عام تشدد على أهمية الفكر فهو موجود في الوصية العظمى (تُحِبُّ الرَّبَّ إلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ، ومِنْ كُلِّ نَفسِكَ، ومِنْ كُلِّ قُدرَتِكَ، ومِنْ كُلِّ فِكرِكَ – لوقا 10:27) والرسول بولس يوصينا أن لا نكون أولادا في أذهاننا بل كاملين فيهم (1 كور 14 :20). ونرى عبر التاريخ أن الكنيسة التي أهملت الفكر وأصبحت معادية له ولدت جيلا عقيما3. لكن الأمر الذي يزعجني هو صورة الله التي تتكون في الأذهان عن هذا الإله الذي لا يحترم العقل. هل هو ضعيف، خائف، أم أنه دكتاتور غير محب؟ بالنسبة لي الإله الذي يخاف من اسئلتك لا يستحق عبادتك!

3. احترام مشاعر المشكك

في كثير من الأحيان، يكون المشكك متألمًا، حزينًا، أو مجروحًا بسبب فقدان شخص عزيز أو تجربة قاسية. في هذه الحالات، علينا أن نظهر التعاطف والمواجدة الإنسانية، ونكون إلى جانبه دون محاولة إعطائه أجوبة أو وعظ، بل ببساطة تقديم المواساة والدعم. يجب أن يعرف المشكك أننا نهتم به كإنسان قبل أن نهتم بإقناعه بالحجج العقلية.

4. التركيز على المواضيع الأساسية

عند الحوار مع المشكك، قد تظهر أسئلة متعددة حول مواضيع مختلفة، مثل العهد القديم، القضايا الأخلاقية، العلم، الفلسفة، أو السياسة. من المهم إدراك أن الفكر المسيحي يحتوي على وجهات نظر متنوعة لهذه الأسئلة، وهذا التنوع صحي. لكن في الوقت نفسه، هناك مواضيع أساسية يتفق عليها جميع المسيحيين، مثل: وجود الله، لاهوت المسيح، صلبه وقيامته. لذا، من الحكمة المحاولة بأدب التركيز على الأساسيات، مع احترام التنوع الفكري في التفاصيل الأخرى.

من المهم أن نعترف أننا لا نعرف كل الأجوبة وأن هنالك تنوع داخل المسيحيّة، لكن بنفس الوقت من المهم أن نتقوى في معرفتنا في الأمور الأساسية4

5. الصلاة من أجل المشكك

مثال رائع على قوة الصلاة نجده في قصة حقيقية من القرن الرابع. كان هنالك شابًا قد نشأ في بيت مسيحي، لكنه انحرف إلى اعتناق عقيدة وثنية. رغم ذلك، لم تتوقف والدته القديسة مونيكا عن الصلاة من أجله، بل استمرت لمدة 17 عامًا، بدموع كثيرة، طالبة من الله أن يهديه إلى الطريق الصحيح. بفضل صلواتها، وأحاديث مطولة بينه وبين لاهوتيين آخرين، عاد الشاب إلى الإيمان المسيحي، وأصبح أحد أعظم اللاهوتيين والفلاسفة في التاريخ، حتى لُقّب بـ**”ابن الدموع”** نسبةً لدموع أمه في الصلاة من أجله. هذا هو القديس أوغسطين.

القديس أوغسطين وأمة القديسة مونيكا

الختام

هناك العديد من المتشككين من حولنا، الذين يبحثون عن مكان آمن لطرح أسئلتهم، وعن أشخاص حكماء مصلّين، يحترمون العقل والقلب. فهل نكون نحن هؤلاء الأشخاص، كما كان سيدنا وربنا يسوع المسيح؟

المصادر

  1. كتاب جاري هبرماس ↩︎
  2. مصدر صورة يوحنا بالسجن ↩︎
  3. اقتباس بتصرّف من الفيلسوف ج. ب. مورلاند ↩︎
  4. قناة ثابت على اليوتيوب مليئة بالفيديوهات عن المواضيع الاساسية ↩︎