استضاف مؤخرا جو روجان على قناته المشهورة في اليوتيوب عالم الأحياء التطوّري ريتشارد دوكينز ليحاوره حول كتابه الأخير “التخلص من الله”، وهو يُعتبر نسخة مبسطة عن كتابه الأشهر “وَهم الله”. خلال الحديث ادّعى دوكينز أن جميع البشر ملحدين، لأنهم ألحدوا بكل الآلهة الاخرى مثل زيوس، كريشنا، بعل وغيرهم. وهو، بحسب تعبيره، ألحد بإله واحد إضافي فقط وهو الله، اله الديانات الابراهيمية، ولذلك نحن جميعنا ملحدون! المثير للعجب أن المضيف، جو روجان، أُعجب جدا بهذه الحجة وأعلن انها حقًا حجة ساحقة!
من المعروف أن دوكينز ملحد ويجاهر ليس فقط بإلحاده بل بنقده اللّاذع للدّين والمتديّنين. حجته هذه “جميعنا ملحدون”، أصبحت نوعا من شعار رنّان يردده ملحدون مشهورون آخرون مثل ريكي جرفياس، مايكل شيرمر وغيرهم، وكأغلب الأحيان العديد من أتباع هؤلاء الملحدين، يكررون الكلام دون فحصه. هلم نفحص معا هل هناك أي اساس منطقي لهذه الحجة التي منها يمكننا استنتاج صحة الموقف الإلحادي وعدم وجود الله!؟ أو هل يمكننا استنتاج أي خطأ موجود بالإيمان بوجود الله؟
هل هذه حجة منطقية؟
أولا، هذه الحجة تلمّح أن هنالك فرق واحد بسيط بين الملحد والمؤمن وهو ايمان بمجرد اله واحد اضافي. في الواقع هنالك فرق كبير في التعريف. لتوضيح هذه النقطة، تخيلوا معي هذا الحديث الذي يدور بين صديقين بينما كانا يلعبا بلاي ستيشن:
سمير: خالد، علي أن اعترف لك بأمر
خالد: ماذا؟
سمير: لقد قتلت أحدهم قبل أسبوع
خالد: !!!
سمير: لماذا تستغرب، فكلنا قتلة!
خالد: أنا لم أقتل أحدا قط!
سمير: أنا فقط قتلت شخص واحد اضافي عنك، ولذلك كلنا قتلة!
خالد: هذا ليس تعريفا صحيحا لـ “قتلة”!!
أو تخيل أحدهم يقول: هذا الشكل ليس مثلثا، بل إنه مربع ينقصه ضلع واحد فقط! نحن لا نعرّف الاشياء هكذا فهذا سخف. هل سيقبل الملحد أن نعرفه كمؤمن. فإن المؤمنين يؤمنون باله واحد اضافي فقط! طبعا لا. تعريف المؤمن هو الشخص الذي يؤمن بوجود الله وتعريف الملحد هو الشخص الذي يؤمن بأن الله غير موجود. ببساطة، هنالك سؤال: هل الله موجود؟ المؤمن هو من يقول نعم، والملحد يقول لا.
هل من نقاط قوة مستترة؟
ثانيا، من يدعم هذه الحجة قد ينوّه لوجود نقطة قوة أخرى لديها: إذا أخذت كل الادعاءات التي تثبت عدم وجود كل الالهة الباقيين وطبّقتها على الهك، عندها ستفهم قوة الموقف الإلحادي. لكن، مفهوم الله في الديانات الابراهيمية مختلف تماما عن مفهوم كل الالهة الأخرى خاصة الشرقية والاسطورية. هنالك فرق كبير بين تعريف هذه الآلهة وصفاتها، فاغلبها (التي يعرضها دوكينز كمثال) معتمدة بوجودها على أمور مادية. زيوس، على سبيل المثال، كائن مخلوق مادي لديه أب وأم. أما الله فهو إله الكل وخالق المادة، الزمان والمكان ولذا وجوده غير معتمد على أي أمر آخر.
الأدلة التي عرضت كدعم لوجود زيوس مثلا، قد أُبطلت. ليس ذلك فحسب بل هنالك ادلة على عدم وجوده (أو وجود أي شخصية الهية أخرى) على جبل أوليمبوس. وهذا ينطبق على أغلب الالهة الصغيرة الاخرى. أما بالنسبة لله، اله الديانات الابراهيمية، فالوضع يختلف. فعلى الرغم من وجود بعض الأشخاص غير المختصين الذين يستخدمون ادلة مليئة بالمغالطات، ما زال حتى يومنا هذا ادلة منطقية (فلسفية) على وجود الله. هذه الادلة محترمة اكاديميًا وتُعلّم حتى في الجامعات العلمانية. في السنة الماضية، على سبيل المثال، صدر كتاب من بيت النشر في جامعة اوكسفورد يتضمن حوالي ٢٦ دليل على وجود الله.
من المعروف أن هذه الادلة لا دخل لها بالأوثان والآلهة المخلوقة الصغيرة كزيوس. لن يتسنى لي الآن شرحها (بعضها موجود في موقعنا). في الثاني عشر من تشرين الثاني 2019 قدمت محاضرة بجامعة التخنيون في حيفا بعنوان هل الله موجود بين الغزالي ولايبنتس، بها بدأت بتعريف مقبول اكاديميا لله وثم شرحت بعض الأدلة الكونية على وجود الله. للتلخيص، الادعاءات التي تستخدم لدحض وجود زيوس واصدقائه لا يمكن تطبيقها على الله. وبنفس الوقت، الأدلة الاكاديمية التي تدعم وجود الله ما زالت قوية ومحترمة.
محاولة أُخرى
ثالثا، قد يدعي دوكينز أن غالبية المؤمنين لم يدرسوا الادلة على وجود الله بل هم مقتنعون بوجوده لاسباب اجتماعية أو لمجرد العناد. لكن هذا الادعاء لا يدعم حجته الأساسية التي ادعى بها أنه كملحد أخذ خطوة اخرى ولا يؤمن باله واحد فقط. هل يا ترى هذه الخطوة التي أخذها الملحد كانت ايضا بحسب الأغلبية، كمجرد خطوة عنيدة أو مبنية على المجتمع؟ هذه النقطة أيضا ليست من صالح دوكينز.
لعبة ختامية!
أخيرا، هل تعرفون لعبة الجينجا؟ إنها اللعبة التي بها يرتب المشتركين قطع خشبية مستطيلة بشكل برج ومن ثم يحاولون إخراج بعض القطع من البرج من دون إسقاطه. تخيلوا معي أنه خلال اللعبة، وصلنا الى مرحلة بها كان كل البرج مؤسسا على قطعة خشبية واحدة موجودة في القاعدة. هل من المنطقي أن يدعي أحدهم أنه سيذهب خطوة اضافية اخرى، ويزيل فقط قطعة خشبية واحدة اضافية (وهي التي في القاعدة) ويدعي أنه فعل تماما مثل الذي أزال قطعة قبلها كانت موجودة في القاعدة؟ طبعا لا! ففي هذه الحالة، القطعة الاخيرة تختلف جوهريا عن القطع الاخرى وازالتها ستؤدي (على الاغلب) الى هدم كل البرج! حجة دوكينز لا تنفع هنا أيضا.
لدي احترام كبير لريتشارد دوكينز خاصة لما قدّمه في مجال علم الأحياء، لكن هذا لا يجعل منه خبيرا في مجالات اخرى، بالاخص الفلسفية. كونه عالم لا يجعل من جميع ادعاءاته مدعومة علميًا، بل في أحيان كثيرة هي مجرد تعبير عن ارائه الشخصية التي من الممكن أن تكون مغلوطة، كما رأينا هنا. لذا على كل منّا فحص الافكار التي نسمعها من أي شخص، مهما كان تحصيله العلمي، القابه أو شهرته، قبل تقبّلها وبالأخص قبل تكرارها.
بقلم جورج عبده
المقال مستوحى من فيديو نقدي لحجة دوكينز (بشكل كوميدي) للصديق جون ماكري
مصدر صورة الغلاف
مصدر صورة الجينجا – رخصة الاستعمال